كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقِيلَ: مَلَكَيْنِ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ.
وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَةٌ، فَقَالُوا: إنَّهُمَا كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَرَبُّك أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ، بَيْدَ أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ قَوْلًا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْغَرَضِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مِحْرَابَ دَاوُد كَانَ مِنْ الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يَرْقَى إلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ إلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسْبِ طَاقَتِهِ، مَعَ أَعْوَانٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ، وَآلَاتٍ جَمَّةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ.
وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يُوصَلُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ الْمِحْرَابِ لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ: {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} إذْ لَا يُقَالُ تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ وَالْغُرْفَةَ لِمَنْ طَلَعَ إلَيْهَا مِنْ دَرَجِهَا، وَجَاءَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا.
وَإِذَا شَاهَدْت الْكُوَّةَ الَّتِي يُقَالُ إنَّهُ دَخَلَ مِنْهَا الْخَصْمَانِ عَلِمْت قَطْعًا أَنَّهُمَا مَلَكَانِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعُلُوِّ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهَا إلَّا عُلْوِيٌّ، وَلَا نُبَالِي مَنْ كَانَا فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُك بَيَانًا، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ وَرَاءَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} فَإِنْ قِيلَ: لِمَ فَزِعَ وَهُوَ نَبِيٌّ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الْعِصْمَةَ، وَلَا أَمِنَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ، وَمِنْهُمَا.
كَانَ يَخَافُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَخَفْ.
وَقَبْلَهُ قِيلَ ذَلِكَ لِلُوطٍ؛ فَهُمْ فَزِعُونَ مِنْ خَوْفٍ مَا لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهُمْ فِيهِ: إنَّكُمْ مِنْهُ مَعْصُومُونَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ.
وَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِخْرَاجِهِمْ إذْ عَلِمَ مَطْلَبَهُمْ، وَقَدْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَهَلَّا أَدَّبَهُمْ عَلَى تَعَدِّيهِمْ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ شَرْعِهِ فِي الْحِجَابِ وَالْإِذْنِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى حَسْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِنَا مُهْمَلًا عَنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ.
الثَّانِي: إنَّا لَوْ نَزَّلْنَا الْجَوَابَ عَلَى أَحْكَامِ الْحِجَابِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْفَزَعُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ أَذْهَلَهُ عَمَّا كَانَ يَجِبُ فِي ذَلِكَ لَهُ.
الثَّالِثُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَلَامَهُمَا الَّذِي دَخَلَا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْهُ، وَيَرَى هَلْ يَحْتَمِلُ التَّقَحُّمُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ عُذْرٌ لَهُمَا، أَمْ لَا يَكُونُ لَهُمَا عُذْرٌ عَنْهُ.
وَكَانَ مِنْ آخِرِ الْحَالِ مَا انْكَشَفَ مِنْ أَنَّهُ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ وَمَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِصَّةِ، وَأَدَبٌ وَقَعَ عَلَى دَعْوَى الْعِصْمَةِ.
الرَّابِعُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا إذْنَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَحَدٍ، وَلَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}.
فِيهَا وَفِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى كَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّكُونِ وَالْمُعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ.
وَقَدْ يُكْنَى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحَجَرَ وَالنَّاقَةَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْهُذَلِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إنَّهُ يُكَنَّى عَنْ الْمَرْأَةِ بِأَلْفِ مِثْلٍ فِي الْمَقَامِ يُعَبِّرُ بِهِ الْمَلِكُ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ، وَقَدْ قَيَّدْنَاهَا كُلَّهَا عَنْهُ فِي سِفْرٍ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} إنْ كَانَ جَمِيعُهُنَّ أَحْرَارًا فَذَلِكَ شَرْعُهُ، وَإِنْ كُنَّ إمَاءً فَذَلِكَ شَرْعُنَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا بِعَدَدٍ، وَإِنَّمَا الْحَصْرُ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَعْفِ الْأَبَدَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْمَارِ.
وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ مَثَلًا.
الْمَعْنَى هَذَا غَنِيٌّ عَنْ الزَّوْجَةِ وَأَنَا مُفْتَقِرٌ إلَيْهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا كَانَ مَقْصُورًا مِنْ النِّسَاءِ عَلَى مَا فِي شَرْعِنَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا نَصٌّ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهُ قَبْلُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَكْفِلْنِيهَا} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مِنْ كَفْلِهَا أَيْ ضَمِّهَا أَيْ اجْعَلْهَا تَحْتَ كَفَالَتِي.
الثَّانِي: أَعْطِنِيهَا.
وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ مَعْنًى.
الثَّالِثُ: تُحَوَّلُ لِي عَنْهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَيَرْجِعُ إلَى الْعَطَاءِ وَالْكَفَالَةِ إلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْكَفَالَةِ وَأَخَصُّ مِنْ الْعَطَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}.
يَعْنِي غَلَبَنِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنْ عَزَّ بَزَّ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الْغَلَبَةِ؛ فَقِيلَ مَعْنَاهُ: غَلَبَنِي بِبَيَانِهِ.
وَقِيلَ: غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافَهُ.
كَانَ بِبَلَدِنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ سَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمْته فِي أَنْ يَسْأَلَ لِي رَجُلًا حَاجَةً، فَقَالَ لِي: أَمَا عَلِمْت أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَانِ الْحَاجَةَ غَصْبٌ لَهَا.
فَقُلْت: أَمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا.
فَعَجِبْت مِنْ عُجْمَتِهِ وَحِفْظِهِ لِمَا تَمَثَّلَ بِهِ، وَفِطْنَتِهِ، كَمَا عَجِبَ مِنْ جَوَابِي لَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ}.
الظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا شَرْعًا، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا عَادَةً، فَإِنْ كَانَ غَلَبَهُ عَادَةً عَلَى أَهْلِهِ فَهُوَ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ، وَإِنْ كَانَ سَأَلَهُ إيَّاهَا فَهُوَ ظُلْمٌ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَعَادَةً، وَلَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي تَقْيِيدِ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ؛ أَمْثَلُهَا أَنَّ دَاوُد حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ إذْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ، فَقِيلَ لَهُ.
إنَّك سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ، فَخُذْ حِذْرَك؛ فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ، وَمَنَعَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إذْ جَاءَ طَائِرٌ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ، وَجَعَلَ يُدْرِجُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ، فَاسْتُدْرِجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةِ الْمِحْرَابِ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ، فَطَارَ فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ، وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَتَبَ دَاوُد إلَى أَمِيرِ الْغَزَاةِ أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ، إمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلُوا.
فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ، فَقُتِلَ.
فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُد، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسُهُ حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ، وَشَبَّ وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهَا مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ.
{قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي التَّنْقِيحِ: قَدْ قَدَّمْنَا لَكُمْ فِيمَا سَلَفَ، وَأَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ إجْمَاعًا، وَفِي الصَّغَائِرِ اخْتِلَافٌ؛ وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ النُّبُوَّاتِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: لَا صَغِيرَةَ فِي الذُّنُوبِ وَهُوَ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فَوْقَهَا مَعْصِيَةٌ، كَمَا أَنَّ النَّظْرَةَ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ دُونَهَا مَعْصِيَةٌ، وَبَيْنَهُمَا ذُنُوبٌ إنْ قَرَنْتهَا بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْقَذْفِ وَالْغَصْبِ كَانَتْ صَغَائِرَ، وَإِنْ أَضَفْتهَا إلَى مَا يَلِيهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ كَانَتْ كَبَائِرَ وَاَلَّذِي أَوْقَعَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ التَّقْصِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَصَائِبَ لَا قَدْرَ عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ اعْتَقَدَهَا رِوَايَاتٍ وَمَذَاهِبَ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَلَّا تُبَثُّ عَثَرَاتُهُمْ لَوْ عَثَرُوا، وَلَا تُبَثُّ فَلَتَاتُهُمْ لَوْ اسْتَفْلَتُوا؛ فَإِنَّ إسْبَالَ السِّتْرِ عَلَى الْجَارِ وَالْوَلَدِ وَالْأَخِ وَالْفَضِيلَةُ أَكْرَمُ فَضِيلَةٍ، فَكَيْفَ سَتَرْت عَلَى جَارِك حَتَّى لَمْ تَقُصَّ نَبَأَهُ فِي أَخْبَارِك؛ وَعَكَفْت عَلَى أَنْبِيَائِك وَأَحْبَارِك تَقُولُ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَتَنْسُبُ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِهِ، وَلَا تُلَوَّثُوا بِهِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا التَّعَدِّي وَالْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَخْبَارَهُمْ.
قُلْنَا: عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ مَا شَاءَ مِنْ أَخْبَارِ عَبِيدِهِ، وَيَسْتُرَ وَيَفْضَحَ، وَيَعْفُوَ وَيَأْخُذَ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُنَبِّزَ فِي مَوْلَاهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ اللَّوْمَ، فَكَيْفَ بِمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْأَدَبُ وَالْحَدُّ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ لِعِبَادِهِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَكَيْفَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ؟ فَمَا ظَنُّك بِالْأَنْبِيَاءِ، وَحَقُّهُمْ أَعْظَمُ، وَحُرْمَتُهُمْ آكَدُ، وَأَنْتُمْ تَغْمِسُونَ أَلْسِنَتَكُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ، وَلَوْ قَرَّرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ حُرْمَتَهُمْ لَمَا ذَكَرْتُمْ قِصَّتَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِأَنَّ الْعِبَادَ سَيَخُوضُونَ فِيهَا بِقَدْرٍ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ كَمَا وَقَعَ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِالصِّدْقِ كَمَا جَرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ} يَعْنِي أَصْدَقَهُ.
وَقَالَ: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْك مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك}.
وَقَدْ وَصَّيْنَاكُمْ إذَا كُنْتُمْ لابد آخِذِينَ فِي شَأْنِهِمْ ذَاكِرِينَ قَصَصَهُمْ أَلَّا تَعْدُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَتَقُولُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ غَيْرِ مَا نَسَبَ اللَّهُ إلَيْهِمْ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: قَدْ عَصَى الْأَنْبِيَاءُ فَكَيْفَ نَحْنُ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ كَفَرَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْخُصُوصِ بِالْجَائِزِ مِنْهَا دُونَ الْمُمْتَنَعِ: أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ دَاوُد حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنْ يَعْتَصِمَ إذَا اُبْتُلِيَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ لَا حَرَجَ فِيهِ فِي شَرْعِنَا آخِرًا، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَنَا إنَّا نُؤَاخَذُ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا بِفَضْلِهِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَيْسَ فِي وُقُوعِهِ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ نَقْصٌ؛ وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ هُوَ الْإِصْرَارُ بِالتَّمَادِي عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ وَعَقْدِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.
الثَّانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ نَظَرَ مِنْ حَالِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ وَخُشُوعِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِخْبَاتِهِ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُعْطِيهِ عَادَةَ التَّجَافِي عَنْ أَسْبَابِ الذُّنُوبِ، فَضْلًا عَنْ التَّوَغُّلِ فِيهَا، فَوَثِقَ بِالْعِبَادَةِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَاطِّرَادِهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الطَّائِرَ دَرَجَ عِنْدَهُ فَهَمَّ بِأَخْذِهِ، فَدَرَجَ فَاتَّبَعَهُ، فَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْعِبَادَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا مُبَاحٌ فِعْلُهُ لاسيما وَهُوَ حَلَالٌ، وَطَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ الطَّائِرَ لِذَاتِهِ لَا لِجَمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ؛ وَإِنَّمَا ذِكْرُهُمْ لِحُسْنِ الطَّائِرِ حِذْقٌ فِي الْجَهَالَةِ، أَمَّا إنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَائِرًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّبَعَهُ لِيَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي مِنْهُ، وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُك عَمَّا تَرَى، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنًى لِي عَنْ بَرَكَتِك».
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً فَلَمَّا رَأَتْهُ أَرْسَلَتْ شَعْرَهَا فَسَتَرَتْ جَسَدَهَا، فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لِكَشْفِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ، وَلَا يَأْثَمُ النَّاظِرُ بِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمَهُ فِي غَرَضِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ أَنَّ دَاوُد قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: انْزِلْ لِي عَنْ أَهْلِك، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَطْلُبُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ الْحَاجَةَ بِرَغْبَةٍ صَادِقَةٍ كَانَتْ فِي الْأَهْلِ أَوْ الْمَالِ، وَقَدْ قَالَ سَعِيدٌ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا: وَلِي زَوْجَتَانِ، أَنْزِلُ لَك عَنْ إحْدَاهُمَا، فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي أَهْلِك وَمَالِك.
وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً يَجُوزُ طَلَبُهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ، وَلَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَةِ الرَّجُلِ عَنْهَا، وَلَا وِلَادَتُهَا لِسُلَيْمَانَ، فَعَنْ مَنْ يَرْوِي هَذَا وَيُسْنَدُ؟ وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يَعْتَمِدُ، وَلَيْسَ يُؤْثِرُهُ عَنْ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ أَحَدٌ؟ أَمَا إنَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نُكْتَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُد قَدْ صَارَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ كَانَ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَظَرَ إلَيْهَا، كَمَا زُوِّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ بِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ إلَّا أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ لِلزَّوْجِ فِي فِرَاقٍ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِزَوْجِيَّتِهَا، وَكَانَ تَزْوِيجُ دَاوُد الْمَرْأَةَ بِسُؤَالِ زَوْجِهَا فِرَاقَهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْقَبَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَاوُد مُضَافَةً إلَى مَنَاقِبِهِ الْعَلِيَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} تَزْوِيجُ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْ النِّسَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فُرِضَ لَهُمْ مَا يَمْتَثِلُونَهُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ دَاوُد نَكَحَ مِائَةَ امْرَأَةٍ، وَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ.
وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَرِيَّةٍ، وَرَبُّك أَعْلَمُ، وَبَعْدَ هَذَا قِفُوا حَيْثُ وَقَفَ بِكُمْ الْبَيَانُ بِالْبُرْهَانِ دُونَ مَا تَتَنَاقَلُهُ الْأَلْسِنَةُ مِنْ غَيْرِ تَثْقِيفٍ لِلنَّقْلِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ} فِيهِ الْفَتْوَى فِي النَّازِلَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخِرِ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْبَشَرِ؛ وَإِنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ادَّعَى، وَالْآخَرُ سَلَّمَ فِي الدَّعْوَى، فَوَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتْوَى.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إذَا جَلَسَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ».
وَقِيلَ: إنَّ دَاوُد لَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ حَتَّى اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ لَقَدْ ظَلَمَك إنْ كَانَ كَذَلِكَ.